دراسات
إسلامية
الجود
وأهله
بقلم: أبو
عاصم القاسمي
المباركفوري
الجود والسخاء من الخصال التي حُمدت في الجاهلة وفي الإسلام، وكم كان العربي يعتز بالسخاء والجود، وكم من العرب عرفوا بهذه الخصلة وامتازوا بها عن غيرهم. ويرى العربي عيباً أي عيب أن يكون ضيفه جائعا وجاره ضائعا؛ فإن الجود خلف ومحبة ومكافأة وثواب، والبخل حرمان وإتلاف ومذمة كما يقول بعض الحكماء. وقرن الله تعالى السخاء بالإيمان فقال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى﴾[الليل/5]. ولوذهبنا نسرد ما يحضرنا مما قالوه في الجود والسخاء والحث على ذلك والتنويه به والثناء عليه لجاءت مجلدات كبار.
وهذا
حاتم الطائي(1)-
المضروب به
المثل وحده في
السخاء
والجود- كان
يعد لغلمانه
بالعتق إذا ما
جاؤوه بضيف.
وذات مرة
اشتدّ البرد
وكلب الشتاء
فأمر غلامه
يسارًا أن
يوقد نارًا في
يفاع من الأرض
لينظر إليها
من أضلّ
الطريق ليلًا
فيصمد نحوه،
فقال في ذلك:
أوقـد
؛ فإنّ
الّليلَ
ليـلٌ قــرٌّ
والريحُ-يا
موقد- ريح صرّ
علّ
يــرى نارك
مـن يمــرّ
إن
جلبت ضيفا
فأنت حرّ(2)
فهذا
إن دل على
شيء؛ فإنما
يدل على سخائه
وجوده وحرصه
على اصطناع
المعروف مع
الطارق والوارد.
وهو
القائل:
أماوِيَّ
إنْ يُصبحْ
صدايَ بقفرةٍ
من
الأرضِ لا
ماءٌ ولا
خمــرُ
ترى
أنَّ ما
أنفقتُ لم يكُ
ضائرِي
وأنَّ
يدِي ممَّا
بخِلتُ به
صِفـرُ
وقد
علمَ
الأقوامُ لو
أنَّ حاتماً
أرادَ
ثــراءَ
المالِ كانَ
لـه وفـرُ
غَنينا
زماناً
بالتصعلك
والغنَى
وكُلاًّ
سقاناه
بكأسَيْهما
الدَّهـرُ
فما
زادونا بأواً
على ذي قَرابة
غِنانا
ولا أزْرَى
بأحسابنا
الفقرُ(3)
وهذه
امرأة حاتم
الطائي لامته
على البذل والجود
فقال:
مهلًا
نوارُ أقلّي
اللّومَ
والعـذلا
ولا
تقولي لشيء
فات: مـا فعلا
ولا
تقــولي
لمـال كنتُ
مهلكه
مهلًا، وإن
كنتُ أعطي
الجنّ والخبلا(4)
يَرَى
البَخِيلُ
سبيلَ
المَالِ
وَاحِدَةً
إنّ
الجَوادَ
يَـرَى فِي
مَـالِـه
سُبُلًا
لاتُعْذُلِينِى
فِي مَـالٍ
وَصَلتُ بِـه
رحمًا(5)،
وخيرُ سبيل
المال ما وصلا(6)
وكانوا
يحثون على
التحلي
بالجود؛ فإنه
يكسب المرء
المحبة،
ويحذرون
اعتقاد
البخل؛ فإن يعجل
الفقر وفي ذلك
يقول الشاعر:
أمِنْ
خَوْفِ
فَقْــرٍ
تَعَجَّلْتَـــهُ
وأخَّرْتَ
إنفاقَ مَـا
تَجْمَـــعُ
فصِرتَ
الفَقيرَ
وَأَنت
الغَنِىُّ
فَمَا
كَانَ
ينفَـعُ مَـا
تصنعُ(7)
وأخذه
أبو الطيب
فقال:
ومَنْ
يُنفِقُ
السَّاعَاتِ
فِي جَمْعِ
مَالِه
مَخافَة
فَقْرٍ
فَالَّذِيْ
فَعَلَ
الفقرُ(8)
وهذا
أبوتمام(9)
يثني على
بعضهم وينوه
بكرمه وسخائه
في المعتصم:
بيمن
أبي إسحاق
طالتْ يدُ
العلَا
وقَامتْ
قَناةُ
الدِّينِ
واشتدَّ
كاهله
هوَ
البحرُ مِن
أيِّ
النواحِي
أتَيته
فَلُجَّتُهُ
المعروفُ
والجودُ
ساحِلُهْ
تعوَّدَ
بَسطَ الكفِّ
حتى لـو أنه
أرادَ
انقباضاً لم
تُطِعْـهُ
أنامِلـــه
ولو لم
يكنْ في كفهِ
غيرُ نفســه
لجادَ
بها فليتق
الله
سائِلــه(10)
وقال
بكر بن النطاح(11):
مَلَأت
يَـدي من
الدُّنْيَا
مـرَارًا
فَمَا
طمع العواذل
فِي اقتصادي
وَلَا
وَجَبت عَليّ
زَكَاة
مــــالٍ
وَهل
تجب
الزَّكَاة على
جواد(12)
وقال
أبو كدراء
العجلىّ وقد
لامته امرأته
على الجود
والسخاء:
يا أم
كَــدَراء
مَهْلًا لَا
تَلُومِينِـى
إنِّى
كَرِيْمٌ
وَإنَّ
الَّلــوْمَ
يُؤذِيْنِـىْ
فَإنْ
بَخِلتُ
فَإنَّ
البُخْلَ
مُشْتَرَكٌ
وَإنْ
أَجد أعط
عَفْوًا غَير
مَمْنُـــونِ
لَيْسَتْ
بِبَاكِيَــةٍ
إبِلِي إذَا
فَقَـــدت
صَوتِي
ولَا وَارثِي
فِي الحيّ
يَبْكِيني
بنى
البناة لنا
مجــدا
ومكرمـــــة
لا
كالبناء من
الآجـرّ
والطين(13)
قال
الجاحظ: دخل
إسحاق بن
إبراهيم
الموصلي على
الرشيد فقال:
ما لك؟ قال:
سوَامِي
سَوامُ
المُكثِرِينَ
تَجَمُّلاً
وَمَالي
كَمَا قَد
تَعْلَمِينَ
قَلِيْلُ(14)
وآمِرَةٍ
بِالبُخْلِ
قُلتُ لَهَا
اقصرِي
فَذَلكِ
شَيءٌ مَــا
إِلَيْـــهِ
سَبِيْلُ
وَكَيْفَ
أخَافَ
الفَقْرَ أَو
أحرَمَ الغِنَى
وَرَأيُ
أمِيـرِ
المُؤمِنِيـنَ
جَمِيْـــلُ
أَرَى
النَّاسَ
خُلَّانَ
الجَوَادِ،
وَلَا أَرَى
بَخِيْلاً
لَــهُ فَي
العَـالَمِيْنَ
خَلِيْـلُ
فقال
الرشيد: «هذا
والله الشعر
الذي صحت معانيه،
وقويت أركانه
ومبانيه، ولذ
على أفواه القائلين
وأسماع
السامعين. يا
غلام احمل
إليه خمسين
ألف درهم»،
قال إسحاق:
«يا أمير
المؤمنين كيف
أقبل صلتك،
وقد مدحت شعري
بأكثر مما مدحتك
به؟» قال
الأصمعي:
«فعلمت أنه
أصيدللدراهم
مني»(15).
ومما
يستحسن في وصف
الجود والحث
على المبادرة
به قول النمر
بن تولب
العكلي(16)-
أحد بني عكل
بن عبد مناة
بن أد بن
طابخة بن إلياس
بن مضر-:
أَعاذل
إِنْ
يُصْبِحْ
صَدَايَ
بِقَفْرَةٍ
بَعِيْدًا
نَآنِيْ
صَاحِبِيْ وَقَرِيْبِيْ
تَرَي
أَنَّ مَا
أَبْقَيْتُ
لَمْ أَكُ
رَبَّهُ
وَأَنَّ
الَّذِيْ
أَنْفَقْتُ
كَانَ نَصِيْبِيْ
وَذِي
إِبِلٍ
يَسْعَى
وَيَحْسَبُهَا
لَهُ
أَخِي
نَصَبٍ فِيْ
رَعْيِهَا
وَدَؤوْبِ
غَدَتْ
وَغَدَا
رَبٌّ
سِوَاهْ
يَقُوْدُهَا
وَبَدَّلَ
أَحْجَارًا
وَجَالَ
قَلِيْبِ(17)
وللبحتري(18)
لَوْ
أَنَّ
كَفَّكَ لَمْ
تَجُدْ
لِمُؤَمِّــــلٍ
لَكَفَاهُ
عَاجِلُ
وَجْهِكَ
الْمُتَهَلِّلِ
وَلَوْ
أَنَّ
مَجْدَكَ
لَمْ يَكُنْ
مُتَقَادِمًا
أَغْنَاكَ
آخِرُ
سُؤدَدٍ عَنْ
أَوَّلِ(19)
ومن
أفرط ما قيل
في الجود قول
بكر بن
النطّاح:
أقُوْلُ
لِمُرْتَادِ
النّدَى
عِنْدَ
مَالِكٍ
تَمَسّكّ
بِجَدوَى
مَالِكٍ
وصِلَاتِهِ
فَتًى
جَعَلَ
الدُّنْيَا
وِقَاءً
لِعِرْضِهِ
فَأَسْدَى
بِهَا
الْمَعْرُوْفَ
قَبْلَ عِدَاتِهِ
فَلَوْ
خَذَلَتْ
أمْوَالُه
جُوْدَ
كَفّهِ
لَقَاسَمَ
مَنْ
يَرْجُوهُ
شَطْرَ
حَيَاتِهِ
وَإنْ
لَم يجز في
العُمْرِ
قَسَم
لمِاَلِكٍ
وَجَازَ
لَهُ
أعْطَاهُ
مِنْ
حَسَنَاتِهِ
وَجَادَ
بِهَا مِنْ
غَيْرِ
كُفْرِ
بِرَبّهِ
وَأشْرَكَهُ
فِي صَوْمِهِ
وَصَلَاتِهِ(21)
وقال
آخر:
إِيَّاكَ
أنْ
تَـزْدَرِيَ
الـرِّجَالَ
فَمَا
يُدْرِيْكَ
مَـاذَا
يُكِنّـهُ
الصَّدَفُ
نَفْسُ
الْجَـوَادِ
العَتِيق
بَاقِيَــةٌ
يَوْمًا
وَإِنْ مَسَّ
جِسْمَهُ
الْعَجَفُ
وَالحُرُّ
حُرٌّ وَإنْ
أَلَمَّ بِهِ
الضُّ
رُّ
وَفِيْهِ
العَفَافُ
وَالأَنَفُ(22)
***
الهوامش:
(1) حاتِم
الطَّائي(0 00- 46 ق
هـ = 000- 578 م) حاتم بن
عبد الله بن
سعد بن الحشرج
الطائي
القحطاني، أبو
عَدِىّ: فارس،
شاعر، جواد،
جاهلي. كان من
أهل نجد، وزار
الشام فتزوج
ماوية بنت حجر
الغسانية،
ومات في عوارض
(جبل في بلاد
طيءٍ) قال ياقوت:
وقبر حاتم
عليه. شعره
كثير، ضاع
معظمه، وبقي
منه (ديوان - ط)
صغير. وأخباره
كثيرة متفرقة
في كتب الأدب
والتاريخ.
راجع: الزركلي2/151؛
و معجم شعراء
العرب1/1106.
(2) العقدالفريد1/198.
(3) حماسة
الخالديين1/160.
(4) الخبل،
بفتحتين:
الجن، أو ضرب
من الجن يقال
لهم الخابل.
(5) الرحم،
بكسر الراء
وسكون الحاء،
والرحم، بفتح
فكسر:
القرابة.
(6) الشعر
والشعراء1/238.
(7) العقد
الفريد1/189.
(8) صبح
الأعشى في
صناعة
الإنشاء2/337.
(9) أَبو
تَمَّام مجيب
بن أوس بن
الحارث
الطائي (188-231 هـ /804 - 846
م): الشاعر،
الأديب. أحد
أمراء البيان.
ولد في جاسم
(من قرى حوران
بسورية) ورحل
إلى مصر، قال
الذهبي:
وَكَانَ
أَسْمَرَ،
طُوَالاً، فَصِيْحاً،
عَذْبَ
العِبَارَةِ،
مَعَ
تَمْتَمَةٍ
قَلِيْلَةٍ.
وَكَانَ
يَتَوَقَّدُ
ذَكَاءً.
وَسَحَّتْ
قَرِيحَتُهُ
بِالنَّظْمِ
البَدِيعِ،
فَسَمِعَ
بِهِ
المُعْتَصِمُ،
فَطَلَبَهُ،
وَقَدَّمَهُ
الشُّعَرَاءُ،
وَلَهُ
فِيْهِ قَصَائِدُ.
وَكَانَ
يُوْصَفُ
بِطِيبِ الأَخْلاَقِ
وَالظُّرْفِ
وَالسَّمَاحَةِ.
ولي بريد
الموصل، فلم
يتم سنتين حتى
توفي بها. كان
يحفظ أربعة
عشر ألف أرجوزة
من أراجيز
العرب غير
القصائد
والمقاطيع. في
شعره قوة
وجزالة. راجع:
سيرأعلام
النبلاء11/64؛
والزركلي2/165.
(10) المحاسن
والأضداد1/87.
(11) بَكر
بن
النَّطَّاح
أبو وائل الحنفي(000-192هـ
= 000- 808م):
شاعر غزل، من
فرسان بني حنيفة،
من أهل
اليمامة.
انتقل إلى
بغداد في زمن
الرشيد،
واتصل بـ أبي
دلف العجليّ
فجعل له رزقا
سلطانيا عاش
به إلى أن
توفي. ورثاه
أبو العتاهية
بقوله: مات
ابن نطاح أبو
وائل بكر... فأضحى
الشعر قد
ماتا! راجع:
الأعلام2/71.
(12) الحماسة
المغربية 1/671.
(13) الفاضل
للمبرد 1/38.
(14) سوامي:
فعالي فعال
المكثرين
تجملا.
(15) المحاسن
والأضداد1/27.
(16) النمر
بن تَوْلَب بن
زهير العكلي (000-
نحو 14هـ / 000 - نحو 635
م): شاعر مخضرم.
عاش عمرًا
طويلًا في
الجاهلية،
وكان فيها
شاعر
«الرباب» ولم
يمدح أحدًا
ولا هجا. وكان
من ذوي النعمة
والوجاهة،
جوادًا
وهَّاباً لماله.
يشبه شعره
بشعر حاتم
الطائي. أدرك
الإسلام وهو
كبير السن،
ووفد على
النبي ﷺ، وروى عنه
حديثًا. وعاش
إلى أن خرف.
وعدّه السجستاني
في المعمرين.
وذكره «عمر»
يومًا فترحم
عليه، فكأنه
مات في أيام
أبي بكر
أوبعده بقليل.
وجمع الدكتور
نوري القيسي
في بغداد ما
وجد من شعره
في «ديوان – ط».
للاستزادة من
ترجمته راجع:
معجم شعراء العرب
1/865؛ والأعلام
للزركلي 8/48.
(17) الكامل
في الأدب1/292.
(18) البُحْتُري
(206-284هـ/821- 898م)
الوليد بن عبيد
بن يحيى
الطائي، أبو
عبادة
البحتري: شاعر
كبير، يقال
لشعره «سلاسل
الذهب». وهو
أحد الثلاثة
الذين كانوا
أشعر أبناء
عصرهم: المتنبئ،
وأبو تمام،
والبحتري. قيل
لأبي العلاء
المعري: أي
الثلاثة
أشعر؟ فقال:
المتنبئ وأبو
تمام حكيمان،
وإنما الشاعر
البحتري. كان
على صلة
بجماعة من
الخلفاء
أولهم
المتوكل
العباسي، ولد و
توفي بمنبج.
له «ديوان شعر
– ط» وكتاب
«الحماسة – ط» على مثال
حماسة أبي
تمام.
للاستزادة من
ترجمته راجع:
معجم شعراء
العرب 1/564م؛ وسير أعلام
النبلاء13/486؛
والأعلام
للزركلي 8/121.
(19) المحاسن
والأضداد1/87.
(21) العقدالفريد1/198.
(22) عيون
الأخبار1/414.
***
مجلة
الداعي
الشهرية
الصادرة عن
دار العلوم ديوبند
، رمضان - شوال 1436
هـ = يونيو –
أغسطس 2015م ، العدد
: 9-10 ، السنة : 39